إلي رحمة
الله
2
– الباحث الهندي المعروف
الدكتور رفيق زكريّا الكوكني المهاراشتري
1338 –
1426هـ = 1920 – 2005م
انتقل إلى رحمة الله تعالى في نحو الساعة
السابعة والنصف من صباح يوم السبت : 2/ جمادى الثانية 1426هـ الموافق 9/يوليو
2005م الباحثُ الهندي والكاتبُ الإنجليزي القدير الدكتور «رفيق زكريّا» بنوبة قلبية ألمّت به بمنزله الكائن بـ «سي لاند» بـ«كف بريد» بجنوبيّ مدينة «مُمْبَايْ» – «بُومْبَايْ» سابقًا – بالغًا من عمره 85 عامًا . فإنّا لله وإنا إليه راجعون
. وقد دُفِنَ جثمانه بعد ظهر يوم الاثنين 4 من جمادى الثانية الموافق 11/ من يوليو
بمدينة «أورنك آباد» الشهيرة إحدى مدن ولاية «مهاراشترا» الهنديّة .
خَلَّفَ
الدكتور وراءه زوجته الصحفيّة السيدة فاطمة ، وبنته «تسنيم»
وأبناءه الثلاثة : منصور، وأرشد، وفريد . والسيدة فاطمة عَمِلَت في الماضي مديرة
لصحيفة «التائمز
أوف إنديا الأسبوعية» (Sunday Times of India) وأحد أنجاله وهو
السيد فريد يعمل مديرًا لـ«News Week
International»
وأفادت الأنباء أن زوجتـــه فاطمة ونجله أرشــد كانا موجودين لديه عند وفاته .
كان
الدكتور زكريَّا مُتَضَلِّعًا من اللغة الإنجليزيّة، ويملك بها قلمًا سيّالاً ،
فكان مكثرًا من الكتابة بها . وكان من جيل الزعماء والساسة المثقفين بالثقافة
العصريّة العالية الذي يكاد ينقرض كليًّا ؛ حيث إن السياسة أصبحت عندنا اليوم
مسرحًا للمتقاعدين من نجوم السينما وممثلي الأفلام و الفنّانين والفنانات
والمطربين والمطربات ، أو المنسحبين من ساحة قطع الطريق والقتل والفتك أو
المُسَوِّقين لبضاعة التطرف والطائفيّة . فأصبحت الساحــة السياسيّة بلقعًا من
المثقفين ذوي المستوى الرفيع الذين كانوا لدى خوض معركة تحرير الهند أو فيما بعد
الاستقلال بنحو ربع قرن من الزمان . ومن تبقّى منهم بعده انقرض أو كاد ينقرض ، ولا
يحلّ محلّهم أحد من الساسة والزعماء المعاصرين .
وكان
من جيل المناضلين ضد الاستعمار الإنجليزي، فصحب الرعيل الأول من الزعماء، أمثال
مولانا أبي الكلام آزاد (المتوفى 1377هـ / 1958م) والبندت جواهر لال نهرو
(م1964م)، والمهاتما غاندي (م 1948م) ، وقام بالتحرّكات التحريرية صادرًا عن
توجيهاتهم وعن تعليمات حزب المؤتمر الوطني . وفيما بعد الاستقلال ظلّ مواليًا
صادقًا له ، وقام بالأعمال السياسيّة من على منبره ، وشغل مناصب سياسيّة وحكومية
عديدة بما فيها منصب وزير في كل من الحكومة الإقليمية لولاية «مهاراشترا»
والحكومة المركزية بدهلي العاصمة ، وعمل نائب زعيم لمجلس الشيوخ مُرَشَّحًا من قبل
حزب المؤتمر . وخلال ثلاثة آجال للمجلس الإقليمي عمل في الفترة ما بين 1962-1972م
في حكومة «مهاراشترا»
متقلبًا في شتى المناصب الهامّة حيث ظل يُنْتَخَبُ عضوًا للمجلس الإقليمي من دائرة
«أورنك
آباد»
. وعمل عبر أربعة أعوام نائبَ رئيس لمجلس الشيوخ ، وفي عام 1978م اُنْتُخِبَ عضوًا
للبرلمان . ومَثَّلَ البلادَ على إيعاز من رئيسة الوزراء الهندية السيدة إنديرا
غاندي (م 1984م) لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ثلاث مرات متتالية ، كما زار
دولاً إسلامية ناطقًا باسم السيدة إنديرا غاندي .
وخلال
تعلّمه خاض غمارَ السياسة ، فذاق معاناةَ الاعتقال والسجن ، وظلّ منتقدًا نظريةَ
مؤسس دولة باكستان الزعيم محمد علي جناح ، القائلة بالقومين . وتنقّل أيامَ ذاك
بين مناصب عديدة في مؤتمر الطلاب لعموم الهند . وقد مثَّل عام 1946م اتحادَ الطلاب
العالمي بـ«براك»
وقام بإنجازات مشكورة رئيسًا لاتحاد جمعيات الطلاب الهندية ببريطا العظمى وأوربّا
. وعلى ذلك كان طالبًا نشيطاً في المجالات العامّة ، إلى جانب جدّه واجتهاده في
الدراسة وتذوّق العلم ؛ فأخذ منه بحظّ وافر، وفي الوقت نفسه تخرّج سياسيًّا
محنّكاً، وزعيمًا مجربًا ، وخبيرًا ناضجًا في مجال التعليم والتربية .
تلقى التعليم الابتدائي والثانوي بالمدرسة
الثانوية العالية الأردية الإنجليزية بمدينة «بونه» وحصل على شهادة الماجستير من كلية إسماعيل يوسف ، وعلى شهادة
الحقوق من كلية الحقوق الحكومية بمدينة «بومباي» وحاز شهادة الدكتوراه من جامعة لندن ، وحصل على شهادة «BAR-AT-LAW» من «لنكنس إن».
ولم يقتصر جهده على الأعمال السياسيّة
والقياديّة، وإنّما تعدّاها إلى إرساء دعائم لجهاز التعليم العصري في منطقته التي
كان ينتمي إليها تحركاً سياسيًّا وهي مدينة «أورنك آباد»، فأسس في شتى أنحائها 15 كليّة على الأقل، يقال : إن رئيس
الجمهورية الأسبق السيد «آر وينكت رامن» كان يُسَمِّي مجموعَها «جامعةً صغيرةً» . إلى جانب مدرسة ثانوية عالية أسسها بمدينة «أورنك آباد» ليتعلم بها أبناءُ الطبقة المتخلفة من الشعب .
وعمل
عملاً متصلاً مُكثَّفًا على تطوير مدينة «أورنك
آباد»
صناعيًّا و اقتصاديًّا وتعليميًّا واجتماعيًّا. فأقام بها مطارًا ، ومصانع عديدة ،
وحضّ شركات استثمارية على الاستثمار في الأعمال المتنوّعة فيها ، حتى تحوّلت
المدينةُ غيرَ التي كانت من قبل شكلاً ومعنىً ، وتَوَسَّعَتْ أيضًا من حيث كثافة
العمران وكثرة السكان ، لكونها عادت مُزَوَّدة بتسهيلات مدنيّة وخدمات مُطَوَّرَة
لم يكن لها بها عهد .
ألّف
الدكتور 17 كتابًا قيّما باللغة الإنجليزية وغيرها . نالت قبولاً واسعًا في
الأوساط الثقافية لأسلوبها الإنجليزي الجميل المتين ، وصياغتها اللبقة ، وطرازها
العصري في الخطاب وعرض الموادّ ، وأناقتها في الطباعة والإخراج . من بينها :
1 - Rise of Muslims in Indian Politics.
2 - Struggles within Islam.
3 - Iqbal.
4 - The Poet and the Politician.
5 - The Price of Partition.
6 - Gandhi and the break up of India.
7 - Sardar Patel &
Indian Muslims.
8 - Indian Muslims : where they have gone wrong.
9 - The man who divide India.
10- Communal Ragein
Secular India.
11- Mohammad and Qura'an.
12- Handred Glorious years.
وكان
آخرها مُؤَلَّفه «india Muslims : Where they have gone wrong»
. ولكن الكتاب الذي أثار اهتمام المسلمين نحوه بعدما كانوا يعتبرونه «مسلمًا
حكوميًّا»
لامسلمًا حقيقيًّا ، هو كتابه «Mohammad and
the Qura'an»
الذي ألّفه في الردّ على المارق من الإسلام المدعو سلمان رشدي الهندي الأصل
المتوطن ببريطانيا ، معقبًا على محتويات كتابه : «الآيات
الشيطانية»
(Satanic werses) الذي أساء فيه إلى سيدنا ونبينا محمد ﷺ
إساءة بالغة صمدت قلوبَ المسلمين وهزّت ضمائرهم في العالم كله ، فصدرت في الردّ
عليه كتب ومقالات وأبحاث و انطباعات لا تُحْصَىٰ بشتى لغات الدنيا . وخرجت
في أنحاء العالم مسيرات احتجاجات لاتُعَدُّ .
وكان من بين الذين كتبوا في تفنيد ما هَذٰى به «سلمان رشدي» في كتابه ، بشكل موضوعيّ علمي رصين ، الدكتور رفيق زكريا
رحمه الله . ومن مزية هذا الكتاب أنه أصدرته مؤسسة
«penguin»
البريطانية التي أصدرت كتاب «رشدي»
اللعين . وقد استحسن الكتابَ المثقفون والدراسون الغرب وأشاد به إشادةً بالغةً
الكتابُ والمفكرون والعلماء المسلمون في شبه القارة الهندية ، كما قرّظه المثقفون
من غير المسلمين .
فقال
الداعية المفكر الإسلاميّ الهندي الكبير الشيخ السيد أبوالحسن علي الحسني الندوي
(المتوفى 1420هـ / 1999م) :
«لا
أدري كم أذنب الدكتور زكريا في حياته أو لم يذنب ؟ غير أني يجوز لي بعد تأليفه
لهذا الكتاب ، أن أجزم بأن مقعده مُؤَمَّنٌ – بإذن الله – في الجنة»
.
ولا
غرو فقد وُلِدَ الدكتور رفيق زكريا في 5/ أبريل 1920م (الاثنين : 14/ شعبان
1338هـ) في أسرة كوكنية متدينة ببلدة «سوبارا»
بمديرية «تهانه»
الملاصقة لمدينة «ممباي»
– «بومباي»
سابقًا – . ورغم أنّه تَثَقَّفَ بالثقافة العصرية ؛ ولكن الدين بقي متمكنًا منه
رغم أنّه تقلّب وتجوّل طويلاً في سكك السياسة التي لا تترك في الأغلب أحدًا على
صفاته الدينية الأصيلة و لاسيّما في بلادنا العلمانية التي ساحاتُها السياسية
تمتصّ في الأغلب كل ما يكون لدى الرجل من رصيد من الدين والغيرة الإسلامية والولاء
المليّ . وكأنّه بدون المرور بعملية الامتصاص هذه لا يرتقى إلى ما يرجوه من
المستوى الرفيع من المنصب السياسي.
وقد أبدى هذا التديّنُ المُتَجَذِّر في أعماق
قلبه تأثيرَه عندما مَسَّتِ الحاجة إلى إبدائه ؛ فدَفَعَه إلى وضع مثل هذا الكتاب
الذي يبذّ كثيرًا مما أُلِّفَ في الموضوع .
ورغم
أن مؤلفاته كلها ذات أهميّة ، لكونها مكتوبة باللغة الإنجليزية العذبة ، التي كان
أتقنها بجهده الجبار لدى تعلّمه ؛ حيث كان طالبًا مُجِدًّا في الدراسة للمستوى
المطلوب الذي كان يبشِّر منذ البداية بأن المستقبل الزاهر ينتظره ؛ فتجاوز امتحانَ
الماجستير بجامعة بومباي بامتياز جعله مستحقًا للميدالية الذهبية ، وحصل على شهادة
الدكتوراه من جامعة لندن ، وعاد إلى الهند ، فلم يمض أوقاته هائمًا على وجهه كشباب
اليوم ، وإنما بدأ يكتب أعمدة في «التائمس
أوف إنديا»
كما ظلّ يكتب لدى تعلمه بلندن في صحيفة «New Cronicle»
وصحيفة «The observer» أقول :
رغم كون مؤلفاته كلها ذات قيمة وغناء ، وإن كان يشتمل بعضها على ما يدعو للنقاش
والانتقاد ؛ ولكن مُؤَلّفه في تفنيد مفتريات «رشدي» سيكون
ذخيرة له في الآخرة . وكأن إتقانه للإنجليزية أثمرت إثمارًا صحيحًا في هذا الكتاب
الجدير بالتقدير .
وإلى
ذلك نقل الدكتور عددًا من الكتب الإنجليزية إلى الأردية ، كما أنّه أَلَّفَ رأسًا
كتابًا باللغة المحلية التي رُضِعَ بلبانها ، وهي «اللغة
المراتهية» .
جزاه
الله خيرًا وأجزل مثوبته في الآخرة وأعلى مقامه في الجنة .
*
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان – شوال 1426هـ =
سبتمبر – نوفمبر 2005م ، العـدد : 8–10 ، السنـة : 29.